Total Pageviews

Thursday, August 9, 2012

ليلة مُمطرة


تلك الليلة كانت مختلفة ..

كان المطر غزيراً ..

كان الهدوء صاخباً ..

الرياح باردة ..

الظلام حالك ..

اكتمل القمر , وتلألأت النجوم في السماء خلف الغيوم .

*

رمقته بعينيها الغائرتين .. دوى صوتها الأنثوي في أرجاء الحجرة الخافتة الإضاءة " هل ستذهبُ حقاً ؟ "

أجابها بصوت يملأه الحزن " أجل" 

" ولكن ..."

وضع سبابته على فمها الصغير "هشش .." حاول الابتسام وهو يقول " نامي الآن .. نامي ياحلوتي "

عبست وهي تغمض عينيها " أخشى أن تذهب دون أن تودعني ! .. أخشى أن أستيقظ غداً صباحاً ولا أراك !!"

تنهد بأسَ ثم قال " بصراحة ... أنا أكره اللحظات الأخيرة قبل الوداع .. لستُ قوياً بما يكفي لأودع من حب !" مسح على شعرها بحنان وقبلها بدفء 

. فتحت عينيها المغمضتين وراحت تحدق به ..

ساد الصمت هنيهات ..

سألها كطفل برىء يداعبه الفضول " وماذا لو ذهبت ! .. ماذا لو استيقظتي ولم تريني ؟ "

" سيتفطر قلبي ! ..سأبكي كثيراً , ستنتهي دموعي ولن أستطيع البكاء على أحدٍ آخر ! .. سأحزن , سأتألم , سأشعر بالوحدة , سأمرض ..."

" أنتِ تبالغين ! "

" إنها الحقيقة ! "

شعر بقلبه يتحطم بين جنبيه .. و كأنه لن يحصل له هو أيضاً مثلما سيحصل لها ! , إلا أنه حافظ على كبرياءه وسألها الآن بغرور "وماذا لو حدث لكِ كل هذا ؟ ألن تتحملي ؟ ألا تريدين حمل الأعباء والحزن لأجلي ؟ .. ألم تعديني سابقاً بأنك ستفعلين أي شىء لأجلي ! ولو سبب ذلك بمكروه لكِ ؟ "

ابتسمت بحزن وهي تقول " ومن قال بأنني لن أفعل أي شىء لأجلك الآن ؟! من قال بأنني تخليتُ عن وعدي ؟ "

نظر إلى دمعتها الوحيدة , أراد مسحها ولكنها كانت جميلة ! تلك الدمعة كانت كحبة لؤلؤ سقطت للتو من عينيها !

شعرت هي الأخرى بتلك الدمعة التي كادت أن تحرق وجنتيها لولا أن مسحتها ..

" لنرقص ! "

رمقها بتعجب " نرقص ؟ .. الآن ! "

ضحكت ببراءة " وتحت المطر ! "

أخذت بيده .. أمسكها هو الآخر بقبضة حديدية (عرف بأنها المرة الأخيرة التي سيمسك بها يدها)

وقفت تحت المطر , تنظر إليه .. 

نظر إليها .. نظر إلى دموعها الغزيرة .. 

اقترب منها , همس في أذنها " أنتِ تبكين "

ضحكت وهي تقول " لستُ أبكي ! إنه المطر ! "



رباه ! إنها تضحك رغم حزنها .. إنها تبكي وتخفي دموعها خلف قطرات المطر .. 


صاحت عليه " لنرقص ! لنرقص ياعزيزي .. فالليل للعشاق , والمطر للرقص , واليوم لنا "

أخذت حذاءها ورمته عالياً نحو السماء .. أخذ هو حذاءه ورماه عالياً .

رقصت , فرقص معها 

رقصا معاً تحت ضوء القمر , ومع هطول المطر , بعيداً عن أعين البشر .


*
تداولت الأيام ومرّت ببطء شديد ..
اللحظات كالساعات والأيام كالشهور ..
ذهب ذلك الشهم ليلبي نداء الوطن ، تركها خلفه ليلتحق بالجيش والدفاع عن وطنه .
وفي كل ليلة ، يتذكر تلك الليلة الأخيرة ، ليلة الوداع ، ليلة المطر ، ليلة القمر ، ليلة الألحان الحزينة لنسمات الهواء الباردة ..
ولكنه في كل لحظة كان بتذكر فتاته الجميلة ، ورقصها الفاتن ..

في كل أسبوع كان يرسل لها رسالة رائحتها عبق أنفاسه ، وعنوانها شوقٌ وحنين ، ومحتواها ألمٌ وحزن .. ونهايتها حبٌ أبديّ 
كانت المسكينة ﻻ تفتأ تنتظره في كل صباح جديد لعله تخلى عن كل شىء لأجلها ، تخلى عن الدفاع عن وطنه لأجلها ! 
ﻻ تفتأ تنتظره في كل ليلة لعله حنّ للرقص معها ، لعله احترق شوقاً لتأمل السماء والقمر والنجوم معها ..
لم تعلم بأن ألمها وحزنها ﻻ يضاهي شيئاً عند حزنه لفراقها .
 هو من مرض , هو من يشعر بالوحدة ، مو من يحزن ويتألم بعمق ، هو من بكى وانتهت دموعه ولم يعد يستطع البكاء على شىء آخر ! ..
~
كان المرض الذي أصابه في أيام الحرب يأكل خلايا جسده ويهشه هشا ! كان يذوي ويموت ..
فأرسل لها رسالته الأخيرة ، كان يعلم بقرب أجله ، أراد الرجوع لتوديعها الوداع الأخير ، فهو لم يحقق رغبتها عندما أرادت الاستيقاظ من نومها ورؤيته وتوديعه قبل الذهاب .. 
رقصا معاً حتى نامت كطفلة متعبة .. وتسلل بعيداً عنها .. لم يعلم مالذي جرى لها عندما استيقظت ولم تراه ! تساءل كثيراً عن ردة فعلها آنذاك ! 
ولكن الآن وقبل موته أراد وتمنى العودة ، فقط لتوديعها وإخبارها بكل ماشعر به في وحدته وابتعاده عنها ..

قرأت رسالته الأخيرة ولم تعي مايقصد ! انتظرت منه رسالة أخرى كما عهدت ! انتظرت عودته كما فعلت دائما صباح مساء .. مرت سنة فأخرى 

وأخرى .. جاءها الخبر أخيراً بموته !! 
جاءها خبر موته ، لم يمت في الحرب ! بل بمرض أدى إلى وفاته ! المرض الي أصابه هو الذي فرقهما ! 
عادت لتقرأ رسالته الأخيرة ، وفهمت أخيراً مالذي عنته حروفه المتألمة ..

* حبيبتي .. لعلكِ غضبانة على ذهابي بعيداً وترككِ خلفي ! ﻻ تبتئسي ، و ﻻ تحزني فربما يأخذني الموت وأنا قريب منك ، ليس بالضرورة أن أموت في الحرب ! بل ربما وأنا بجانبك أعاكسك ، وأسامر وجهك المقمر ، فإذا بالموت يسرقني منك ياعزيزتي .. لعل في ابتعادنا خير لم ندركه ! فالموت بعيداً عنكِ أفضل من الموت قريباً منك .. 
ألم تعتادي فراقي ؟ أليس هذا هو الأفضل ؟ أم أنكِ تعتادين قربي وأختفي من حياتكِ فجأة ؟ 
اعتدتي فراقي ، وستعتادين عليه أكثر بعد موتي ...

جمعتُ الكثير من أزهاء الزنبق ، فهي تذكرني برائحتك العذبة

استمعتُ كثيراً لألحان الطيور ، فهي تذكرني بصوتك الشجيّ

نظرت كثيراً إلى القمر وسهرت معه دائماً ، فهو يأتي إلي بأخبارك ويطمئنني على على حالك 

وأخيراً ، الحياة قاسية هنا ... ولكنها ليست أقسَ من فراقك ! .


2 comments:

  1. أسلوبكـ مررره جميل وتقدري توصلي الكلام بطريقة جميلة
    ^_^ إلا الامام

    ReplyDelete